سورة المؤمنون - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


قال في الحاشية: لمّا ذكر تعالى غفلةَ الكفار ووعيدهم، عقَّب ذلك بوصف المؤمنين بضد ذلك ويقينهم بالرُّجْعَى، وإشفاقهم من جلال الحق وقهره. اهـ.
يقول الحق جل جلاله: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي: من عذابه خائفون حذرون، {والذين هم بآيات ربهم} المنصوبة والمُنَزَّلة، {يؤمنون} بتصديق مدلولها، وبكتب الله كلها، لا يُفرقون بين كتبه، كالذين تقطعوا أمرهم بينهم- وهم أهل الكتاب وغيرهم، {والذين هم بربهم لا يشركون} شركاً جلياً ولا خفياً، بخلاف مشركي العرب والعجم.
{والذين يُؤتون ما آتَوْا} أي: يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات. وقرئ: {يأَتُونَ مَا أَتَواْ} بالقصر، أي: يفعلون من الطاعات، {وقلوبهم وَجِلةٌ}: خائفة ألاَّ تُقبل منهم؛ لتقصيرهم؛ بأن لا يقع على الوجه اللائق، فيُؤخذوا به ويُحرموا ثوابه؛ لأنهم {إلى ربهم راجعون} فيعاتبهم، أو من مرجعهم إليه، وهو يعلم ما يحيق عليهم، والمصولات الأربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر، في حَيِّزِ صِلاتِهَا من الأوصاف الأربعة، لا عن طوائف، كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة، كأنه قيل: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، وبآيات ربهم يؤمنون... إلخ.
وإنما كرر الموصول؛ إيذاناً باستقلال كل واحد من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حِيالها، وتنزيلاً لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها، وخبر {إنّ}: {أولئك يسارعون}، أشار إليهم بالجمع اعتبار اتصافهم بتلك النعوت، مع أنَّ الموصول واقع على الجمع.
ومعنى البُعد؛ للإشعار ببُعد رُتبتهم في الفضل، أي: أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة يسرعون {في الخيرات} أي: يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرون إليها. أويسارعون في نيل الخيرات العاجلة والآجلة الموعودة على الأعمال الصالحات؛ كما في قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} [آل عمران: 148]، وقوله: {وَآتَيْنَاهُ فِى الدنيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الآخرة لَمِنَ الصالحين} [النحل: 122]، فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم، غير أنه غيّر الأسلوب، حيث لم يقل: أولئك نسارع لهم في الخيرات؛ بل أسند المسارعة إليهم؛ إيماءاً إلى كمال استحقاقهم نيل الخيرات لمحاسن الأعمال. وإيثار كلمة {في}، عن كلمة إلى؛ إيذانا بأنهم مُتَقلِّبون في فنون الخيرات، لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها، كما في قوله تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133] الآية.
{وهم لهم} أي: لأجل نيل تلك الخيرات، {سابقون} الناس إلى الطاعات، أو: وهم إياها سابقون، واللام زائدة؛ لتقوية العامل، كقوله: {وهم لها عاملون} أي: ينالونها قبل الآخرة، فتُعجل لهم في الدنيا، وعن ابن عباس: {هم لها سابقون} أي: سبقت لهم من الله السعادة، فلذلك سارعوا في الخيرات. اهـ. فهو إشارة إلى تيسير كلِّ لما خُلِق له، وأنه يَسَّرهمُ القدرُ لما وصفهم به من الخير، كما أن الكفار أُمدوا بما يدعو للغفلة والإعجاب، مما هو استدراج ومكر من حيث لا يشعرون.
قال تعالى: {ولا نُكلِف نفساً إلا وُسْعَها} أي: طاقتها، فهو تحريض على تحصيل ما وُصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات؛ ببيان سهولته، وأنه غير خارج عن حد الوسع والطاقة، أي: عادتنا جارية بأنْ لا نكلف نفساً من النفوس إلا ما في طاقتها، فإن لم يبلغوا في فعل الطاعة مراتب السابقين، فلا عليهم، بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم.
{ولدينا كتابٌ} أي: صحائف الأعمال التي يرونها عند الحساب، حسبما يُعرب عنه قوله: {ينطِق بالحق}، كقوله: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] أي: عندنا كتاب أثبت فيه أعمال كل أحد على ما هو عليه، أو أعمال السابقين والمقتصدين جميعاً، وقوله: {بالحق}: يتعلق بينطق، أي: يُظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه، أو يظهره للسامع، فيظهر هناك جلائل أعمالهم ودقائقها، ويرتب عليها أجزيتها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرٌ، وقيل: المراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، وهو مناسب لتفسير ابن عباس بسبق السعادة، وقوله: {وهم لا يظلمون}، بيان لفضله تعالى وعدله في الجزاء، إثر بيان لطفه في التكليف وكتب الأعمال، أي: لا يظلمون في الجزاء؛ بنقص الثواب أو بزيادة عذاب، بل يُجزون بقدر أعمالهم التي كُلّفوها، ونطقت بها صحائف أعمالهم، أو: لا يُظلمون بتكليف ما لا وسع فيه، أو: لا ينقصون مما سبق لهم في اللوح المحفوظ شيئاً، والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذكر في هذه الآية أربعة أوصاف من أوصاف المقربين، أولها: الخوف والإشفاق من الطرد والإبعاد، والثاني: الإيمان الذي لا يبقى معه شك ولا وَهْم، بما تضمنته الآيات التنزيلية من الوعد والإيعاد، والثالث: التوحيد الذي لا يبقى معه شرك جلي ولا خفي، والرابع: السخاء والكرم، مع رؤية التقصير فيما يعطي. فمن جمع هذه الخصال كان من السابقين في الخيرات ويُسارع لهم في تعجيل الخيرات، وكل ذلك بقدر ما يطيق العبد، مع بذل المجهود في فعل الخيرات.
قال في الحاشية: والمسارعة إلى الخيرات إنما هو بقطع الشرور وأول الشرور: حب الدنيا؛ لأنها مزرعة الشيطان، فمن طلبها وعمرها فهو حراثه وعبده، وشر من الشيطان من يُعين الشيطان على عمارة داره، وما ذلك إلا أنه لم يهتم بأمر معاده ومنقلبه، لما جرى عليه في السابقة من الحكم، ولا كذلك من وصفه في الإشفاق من المؤمين؛ إجلالاً لربهم، ورجوعاً لحكمه فيهم غيباً، فلا يأمنون مكره بحال، ولا يركنون إلى أعمال، بل عمدتهم ربهم ورحمته في كل حال. والله أعلم. والحاصل: أنهم مع كونهم يخشون ربهم ويؤمنون بآياته، ولا يشركون به شيئاً، ويودون طاعته، يخافون عدم قبوله لهم عند الرجوع إليه، ولقائهم له؛ لأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأحكامه لا تعلل، ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده. اهـ.
قوله: ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده، أي: لأنه قد يرتب ذلك على شروط أخفاها عنه، ليدوم خوفه واضطراره، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، وليس خوف العارف من السابقة ولا من الخاتمة؛ لأنه شغله استغراقه في الحق والغيبة فيه عن الشعور بالسابقة واللاحقة، إنما خوفه من الإبعاد بعد التقريب، أو الافتراق بعد الجمع، وهذا أيضاً قبل التمكين، وإلا فالكريم إذا أعطى لا يرجع. والله تعالى أعلم.


قلت: {بل} إضراب عما قبله من أوصاف المؤمنين، وانتقال إلى أضدادهم من الكافرين، والضمير للكفرة، و {حتى}: ابتدائية مختصة بالدخول على الجُمل.
يقول الحق جل جلاله: {بل قلوبُهم} أي: الكفرة المستدرج بهم، وهم لا يشعرون، {في غَمْرَةٍ}؛ في غفلة غامرة لها، مما عليه هؤلاء الموصوفون بما تقدم من الخشية وما بعده، أو مما بيَّن في القرآن من أن لديه كتاباً ينطق بالحق، ويُظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد، فيُفضحون بها، كما ينبئ عنه ما بعده من قوله {قد كانت آياتي تتلى عليكم..}. {ولهم أعمال من دون ذلك} أي: ولهم أعمال خبيثة كثيرة، متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون، من الأعمال الصالحات، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم، {هم لها عاملون}، وعليها مقيمون، مستمرون عليها، حتى يأخذهم الله بالعذاب، كما قال: {حتى إذا أخذنا مُتْرَفِيهم} أي: منعميهم {بالعذاب} أي: عذاب الدنيا، وهو القحط سبع سنين، حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، واجعلها عَلَيْهمَ سِنِينَ كَسِنيِّ يُوسُفَ»، فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام. أو: القتل يوم بدر. والحق: إنه العذاب الأخروي؛ إذ هو الذي يُفاجأون عنده بالجؤار، فيجابون بالرد والإقناط عن النصر، وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] فإنَّ المراد به ما جرى عليهم يوم بدر كما يأتي. وأما الجوع فإن أبا سفيان، وإن تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه بالإقناط، بل دعا لهم فكشف عنهم. وقوله تعالى: {إذا هم يجأرون} أي: يصرخون؛ استغاثة، والجؤار: الصراخ باستغاثة. فيقال لهم: {لا تجأروا اليوم}؛ فإن الجؤار غيرُ نافع لكم، {إنكم منا لا تُنصرون} أي: لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم.
{وقد كانت آياتي} القرآنية {تُتلى عليكم} في الدنيا، {فكنتم على أعقابكم تَنكصُونَ} أي: ترجعون القهقرى، وتعرضون عن سماعها أشد الإعراض فضلاً عن تصديقها والعمل بها والنكوص: الرجوع القهقرى وهي أقبح المشية؛ لأنه لا يرى ما وراءه، {مستكبرين به}، الظاهر أن الضمير للقرآن؛ لتقدم ذكر آياته، والباء بمعنى عن أي: متكبرين عن سماعه والإذعان له، أو سببية، أي: فكنتم بسبب سماعه مستكبرين عن قبوله، وعمن جاء به، أو ضَمَّن مستكبرين معنى مُكذبين، وقيل: يعود إلى البيت الحرام، أو الحرم، وأضمر ولم يذكر؛ لأنه من السياق. والمعنى: أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام؛ لأنهم أهله وأهل ولايته، وكانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد؛ لأن أهل الحرم، وقيل: تتعلق بالباء بقوله: {سامراً} أي: تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه، وفي النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، و {سامراً}: مفرد بمعنى الجمع، وقرئ سُمَّاراً، {تهجرون}، إما من الهَجر بالفتح، بمعنى الهذيان، أي: تهذون في شأن القرآن كما يهذو الحالم أو السكران.
أو من الترك، أي: تتركونه وتفرون منه، أو تهجرون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أو من الهجر بالضم، وهو الفحش، ويؤيده قراءة من قرأ: {تُهجِرون}، من أهجر في منطقة: إذا أفحش. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من كان قلبه في غمرة حظوظه وهواه، عاكفاً على جمع دنياه، لا يطمع في دخول حضرة مولاه، ولو صلى وصام ألف سنة. قال القشيري: لا يَصلُحُ لهذا الشأنِ إلا من كان فارغاً من الأعمال كلها، لا شغلَ له في شأن الدنيا والآخرة، فأمَّا من شُغل بدنياه، وعلى قلبه حديثٌ من عقباه، فليس له نصيبٌ من حديث مولاه. اهـ. وفي الحديث: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهمَا كَثِيرٌ مِنَ الناس: الِّصحَّةُ والفَرَاغُ».


قلت: الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف، أي: أَفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار فلم يتدبروا القرآن، و {أم}: منقطعة، فيها معنى الإضراب والتوبيخ في الجميع.
يقول الحق جل جلاله: {أَفَلَمْ يدّبروا القولَ}؛ يتدبروا القرآن ليعرفوا، بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول، والإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة، أنه الحق، فيؤمنوا به، ويُذعنوا لمن جاء به، {أم جاءهم}؛ بل أَجاءهم من الكتاب {ما لم يأتِ آباءهم الأولين}، حتى استبعدوه واستبدعوه، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال، {أم لم يعرفوا رسولهم} أي: بل ألم يعرفوه- عليه الصلاة والسلام- بالأمانة والصدق، وحسن الأخلاق، وكمال العلم من غير تعلم ولا مدارسة، وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء قبله، بل عرفوه بذلك {فهم له منكِرون} بغياً وحسداً.
{أم يقولون جِنَّة}؛ جنون، وليس كذلك؛ لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلاً، وأثقبهم ذهناً، وأتقنهم رأياً، وأوفرهم رزانة، ولقد شهد له بذلك كل من رآه من الأعداء والأحباب، {بل جاءهم بالحق} أي: ليس الأمر كما زعموه في حق الرسول- عليه الصلاة والسلام-، وما جاء به من القرآن، بل جاءهم بالحق الأبلج والصراط المستقيم، وبما خالف أهواهم، من التوحيد الخالص والدين القيم، ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً، فلذلك نسبوه إلى الجنون، {وأكثرُهُم للحقِّ} من حيث هو حق، لا لهذا بعينه، فلذلك أظهر في موضع الإضمار، {كارهون}؛ لِمَا في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل؛ ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج، وزاغوا عن الطريق الأبهج، وفي التعبير بالأكثر دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق بل كان تاركاً للإيمان به، أنفةً واستنكافاً من توبيخ قومه، أو لقلة فطنته وعدم تفكره، كأبي طالب وأضرابه. قال ابو السعود: وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق، مع اتفاق الكل على الكفر به، مما لا يساعده المقام أصلاً. اهـ. فحمل الأكثر على الكل.
{ولو اتبع الحقُّ أهواءهم} بأن كان في الواقع آلهة شتى؛ {لفسدتِ السمواتُ والأرضُ ومن فيهن} كما تقدم في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فالاتباع هنا مجاز، أي: لو جاء الوحي على ما يشتهون لفسدت السموات، فالحق هنا هو المذكور في قوله: {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون}، والمعنى: لو كان ما كرهوه من الحق، الذي من جملته ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، موافقاً لأهوائهم الباطلة؛ لفسد نظام العالم، وتخصيص العقلاء بالذكر حيث عبَّر بمن؛ لأنَّ غيرهم تبع.
{بل أتيناهم بذكْرهم}: بشرفهم، وهو القرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]؛ لأن الرسول منهم، والقرآن لغتهم، أو بتذكيرهم ووعظهم، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه، ويقولون: {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين} [الصافات: 168]، {فهم عن ذِكْرِهم معرضون} أي: فهم، بما فعلوا من النكوص، عن فخرهم وشرفهم معرضون، وهذا مما جُبِلَتْ عليه النفوس الأَمّارة؛ الإعراض عما فيه خيرها، والرغبة فيما فيه هلاكها، إلا من عصم الله، وفي إسناد الإتيان إلى نون العظمة، بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام، ومن التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. انظر أبا السعود.
{أم تسألُهُم خَرْجاً}، هذا انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم: {أم يقولون به جِنَّة}، إلى التوبيخ بوجه آخر، كأنه قال: أم يزعمون أنك تسألهم عن أداء الرسالة {خَرْجا} أي: جُعلاً، فيتهمونك، أو يثقل عليهم فلذلك لا يؤمنون، {فخراجُ ربك خيرٌ} أي: رزقه في الدنيا، وثوابه في الآخرة، خير لك من ذلك؛ لدوامه وكثرته، أي: لا تسألهم ذلك؛ فإن ما رزقك الله في الدنيا والعقبى خير لك من ذلك؛ وفي التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام-، من تعليل الحكم وتشريفه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
والخَرْج والخراج واحد، وهو: الأجر المأخوذ على العمل، ويطلق على الغلة والضريبة كخراج العبد والأرض، وقال النضر بن شُميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفراق بين الخراج والخَرْج، فقال: الخراج ما لزمك، والخرج مَا تَبَرَّعْتَ به، وقيل: الخرج أخص من الخراج؛ لأنَّ الخراج يطلق على كل ما يستفيده المرء من غلة، أو أجرة، أو زكاة، والخرج خاص بالأجرة، وفي الخراج إشعار بالكثرة، فلذلك عبَّر به في جانبه- تعالى- والمعنى: أم تسألهم، على هدايتك لهم، قليلاً من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير، {وهو خير الرازقين}: أفضل المعطين.
{وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} تشهد العقول السليمة باستقامته، ليس فيه شائبة اعوجاج، توجب اتهامهم لك بوجه من الوجوه، ولقد ألزمهم الله- تعالى- الحجة، وأزاح عِللهم في هذه الآيات، حيث حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام من قوله: {أم لم يعرفوا رسولهم...} إلى هنا، وبيَّن انتفاءها، ولم يبق إلا كراهة الحق وعدم الفطنة أو العناد أو المكابرة، {وإنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط}؛ عن طريق الحق {لناكِبُون} أي: لعَادلون عن هذا الصراط المذكور، وهو الصراط المستقيم، وصفهم بعدم الإيمان بالآخرة، تشنيعاً لهم بما هم عليه من الانهماك في الدنيا، وزعمهم ألاَّ حياة إلاَّ حياة الدنيا، وإشعاراً بعِلّيّة الحُكم؛ فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أمور الدعاوي إلى طلب الحق وسلوك سبيله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من أنكر على أهل الخصوصية، ولم يعرف خصوصيتهم؛ فسببه ثلاثة أمور: إما أنه لم يصحبهم ولم يتدبر ما يقولون، ولا ما يأمرون به وينهون عنه، وإنما يرميهم رجماً بالغيب، وإما أنه حسدهم وخاف على جاهه أن يتنقل لغيره، وإما أنهم أتوا بخرق عوائد النفوس التي لم تكن لآبائهم الأولين، فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمِ مُّقْتَدُونَ}، وإنما جاءهم بالحق، وأكثرهم للحق كارهون، وكيف تُخرق للعبد العوائد، وهو لم يخرق من نفسه العوائد؟.
{وَلَوِ اْتَّبَعَ اْلحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ}، بأن كانت التربية على طريق العوائد، والاستمرار معها لفسد النظام، ولبقي الكون كله ظلمة لجميع الأنام؛ إذ لا يمكن أن يصير الكون نوراً، بظهور الحق فيه، إلا بخرق عوائد النفوس، وإخراجها عن هواها، فحينئذٍ تخرق له ظلمة الكَون، فيفضي إلى شهود المكَوّن، {بل أتيناهم بذكرهم} أي: بشرفهم، بمعرفة الحق على نعت العيان، {وهم عن ذكرهم معرضون}؛ حيث انهمكوا في عوائدهم، ولم يقبلوا من يخرجهم عنها ويعرفهم بالله لله، من غير خراج ولا طمع.
قال تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ}. قال القشري: أي: إنَّكَ لا تُطالبهم على تبليغ الرسالة بأجرة، ولا بإعطاءِ عِوَض، حتى تكون في موضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة، أم لعلك تريد أن يَعْقدُوا لك الرئاسة، ثم قال: والذي لَكَ من الله- سبحانه- من جزيل الثواب، وحسن المآب، يُغْنيك عن التصدي لنيلِ ما يكون في حصوله منهم مطمع. هذه كانت سُنَّة الأنبياء والمرسلين- عليهم السلام-؛ عملوا لله فلم يطلبوا عليه أجراً من غير الله، والعلماء ورثة الأنبياء في التنزه من التَّدَنُّس بالأطماع، والأكل بالدين، فإنه ربا مُضِرٌّ بالإيمان، إن كان العملُ لله فالأجر مُنتظرٌ من الله، وهو موعودٌ مِن قبل الله. اهـ. وراجع ما تقدم في سورة هود؛ فإنه أوفى من هذا.
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، وهو طريق الوصول إلى شهود الذات الأقدس، من طريق التربية، التي هي مخالفة الهوى والخروج عن العوائد. وقال القشيري: الصراطُ المستقيمُ: هو شهودُ الحقِّ بنعت الإنفراد في جميع الأشياء، والإيجاف، والاستسلام لقضايا الإلزام، بمواطأة القلب من غير استكراها الحُكمْ. اهـ. وقال الورتجبي عن بعضهم: لولا أن الله- تعالى- أمر بمخالفة النفوس ومباينتها، لاتَّبع الخلق أهواءهم في شهوات النفوس، ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية، وتركوا أوامر الله، وأعرضوا عن طاعته، ولزموا المخالفة، ألا ترى الله يقول: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}.
ثم بيَّن سبحانه أن حبيبه- عليه الصلاة والسلام- يدعوهم إلى تلك المشاهدة بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: مما أوضحه أنوار جماله وشاهَدْتَه، وهي طريق معرفته في قلوب الصِّدّيقين للأرواح القدسية. وتلك الطريقة منتهاها المحبة، وبدايتها الأسوة والمتابعة؛ لقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31]. اهـ. قلت: المراد بالمحبة محبة الحق لعبده؛ بدليل الآية التي ذكر. وقال ابن عطاء: إنك لتحملهم على مسالك الوصول، وليس كل أحد يصلح لذلك السلوك، ولا يوفق له إلا أهل الإستقامة، وهم الذين استقاموا مع الله ولم يطلبوا معه سواه، ولم يروا لأنفسهم درجة ولا مقاماً. اهـ.
قوله تعالى: {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: لا يؤمنون بالحياة الآخرة، وهي حياة النفوس بالمعرفة العيانية، بعد موتها بالجهل والوقوف مع الحس والعوائد، ممن لا يصدق بهذه الحياة، وأنكر وجود من يوصل إليها عن طريق الحق الموصلة إليه، لناكبون، فهم في الحيرة والتلف تائهون، عائذاً بالله من ذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7